كنت في طريقي إلى المنزل. كانت فترة ما بعد الظهيرة متأخرة وقررت أن أمشي بدلًا من ركوب الحافلة. خطوة بعد الأخرى، وجدت نفسي أبكي، رافعة بصري إلى السماء، أبحث عن حل، عن مخرج. كنت قد انتقلت إلى ألمانيا قبل ثلاث سنوات، وبينما استقرت عائلتي جميعها وحصلت على وثائق الإقامة القانونية، كنت الوحيدة التي تلقت رفضًا وأمرًا بالترحيل.
العودة إلى البيت لم تكن خيارًا آمنًا بالنسبة لي، فقد كانوا قادرين على القدوم في أي لحظة، في أي يوم. واستمر هذا الحال لثلاث سنوات. لم يكن العالم الخارجي أكثر أمانًا أيضًا، فالسوريون لم يكونوا موضع ترحيب في ألمانيا، أو على الأقل كانت نبرة التفوق العدوانية الصامتة تتحدث بصوت أعلى من الكلمات.
عندما عدت إلى المنزل وتكوّرت في سريري، بكيت حتى نمت. كان في داخلي الكثير من الحب في عالم مليء بالحرب والموت والعنصرية والكراهية والبشر الذين يتحكمون في حقك في الحياة.
استيقظت على همسات أختي الخافتة وهي تخبرني: “إنهم هنا.” وكنا جميعًا نعرف من “هم”.
كان لا يزال الليل حالكًا، ولم أتمكن من رؤيتهم بوضوح من خلال الستائر، لكنني سمعتهم وشعرت بوجودهم. كنت أعلم أن اللحظة قد حانت، وأن الكون قد استجاب. غريزيًا، أردت الهروب، فاتجهت إلى صندوق الأحذية لألتقط حذائي الرياضي، وسرت في الممر المظلم باتجاه الشرفة، لكنهم كانوا قد طوقوا المنزل.
كانت أمي قد استيقظت حينها، وعرفت أنني بحاجة لأن أكون قوية من أجلهم جميعًا. اجد الجيران قام بالتبليغ عني، فهذا ما ينص عليه القانون. بدأوا بتحطيم الباب، فدخلت أمي وأختي في حالة من الذعر، لكنني كنت أعرف ما يجب فعله. فتحت الباب، فاندفعت الأضواء الساطعة لتعميني تمامًا. كان هناك ثمانية ضباط شرطة ألمان، في “منزلي” عند الساعة الرابعة فجرًا.
كان علي تهدئة والدتي التي كانت تصرخ وتتوسل إليهم أن يتركوني. سُمح لي فقط بتنظيف أسناني، فالتقطت سترة بقلنسوة وفرشاة أسناني وهاتفي. وعندما خرجت، أخبرتهم بأدب ألا يلمسوني، فأنا لست مجرمة، إن كنت شيئًا، فأنا روح محبة للإنسانية بالفطرة.
كانت الليلة باردة، والمطر يتساقط على وجهي، مذكرًا إياي بعهدي غير المعلن مع الكون. لم يكن لدي أي فكرة إلى أين سأذهب أو ما الذي سيحدث، لكنني كنت أعلم أن الكون قد سمعني، وأنه قد استجاب لندائي، وهذا منحني سلامًا داخليًا.
وصلنا إلى مركز الشرطة، وذكروا أن هناك رحلة طيران لي خلال ساعات، وأنه يجب أن أبقى في هذه الزنزانة. جدران بيضاء مطلية حديثًا، أضواء بيضاء بلا نوافذ، مما منحني وقتًا كافيًا للتأمل في أصلي، وجذوري، ولماذا خُلقت سورية على وجه التحديد، دروسي، وتحدياتي في هذه الحياة.
تحركنا نحو فرانكفورت، حيث كانت رحلتي، وعلمت حينها أنني متجهة إلى ميلانو، والباقي أصبح تاريخًا. مضت خمس سنوات منذ تلك الليلة، ومنذ ذلك الحين، تغيرت حياتي بالكامل. اكتسبت القدرة على الغوص في أعماقي، ومواجهة ظلامي. وجدت نفسي، وجدت الوطن الذي كنت أبحث عنه دائمًا… بداخلي.